الاقل سعادة في الحفل

تسير الايام سريعة ، و ينمو العقل و التفكير بصورة إما سريعة او بطيئة لم يعد صديقنا قادراً على التمييز ، احياناً ينظر للماضي باحثاً عن موقف مشابه لما هو فيه الان ، و يقارن ما بين تصرفيه ، يجد عقله قد نما بسرعة احياناً ، و احياناً اخرى يجده نما ببطىء ، او بقي كما كان ، فلم يعد يجد بعد اليوم سبيلاً للتمييز بين العادة التي صارت فيه طبعاً من الصعب التغلب عليه ، و بين التصرف الذي يحكمه حجم التفكير ومقدار وعيه .

صديقنا اليوم ، يعتقد ان لكل شيء "مدير" او شركة كبيرة تديره ، هكذا ما اكتسبه من طبيعة عمله . نعم فلقد صار اليوم فرداً منتجاً في المجتمع ، صار يعمل ، و ترك موقعه كمستهلك ، لحظة ! أطرق قليلاً سائلاً نفسه ، هل المجتمع هذا هو شركة تدير افرادها ؟ و ان كان صحيحاً فمن مدير هذا المجتمع ؟ مضى يمضغ العلكة لتزيل اثراً تركته أقدام النيكوتين في فمه ، فمن الصعب عليه ان يرى والده هذا الاثر فيوبخه عليه و يغضب ، اذاً فوالده مدير أسرته ، لكن هل اسرته منتجة ام مستهلكة في هذا المجتمع ؟ من مدير هذا المجتمع اساساً ؟

يبصق اللبان من فمه لا مبالٍ ، فها هو كما كان ، حينما يعجز عن اجابة شيءٍ ما فإنه لا يكترث لكل شيء ، اي انه يعرّض نفسه للمخاطر ، بلحظيته المبالغ فيها ، ثم يعود ليسأل ، كيف يكون منتجاً في المجتمع ، لكنه مستهلك ، او كمستهلك في اسرته ؟ هذا غريب فعلاً ، وسؤال اخر بلا جوابٍ شافٍ ، لا لبان الان في فمه ليبصقه ، لكن طبعه لا بد ان يجبره على فعل ما يدل على عدم الاكتراث ، فيقوم بترديد بعض الشتائم في نفسه ، احياناً تترجم عبر كلامٍ غير مفهوم يصدر بصوت متمتم يثير استغراب من حوله .

يعود صاحبنا للبيت متوتراً او ربما غير متوتر ، لكنه صار منقاداً ، ليس طبعاً لكن ... لا يدري حقيقة ربما صار طبعاً !

يعود و يرد له الامر بتحضير نفسه لمرافقة هذه "الاسرة" في زيارة لبعض الاصدقاء ، هو نفسه جزء من الاسرة ، لكن لا يجد في هؤلاء الاصدقاء انهم "قريبون" منه ! غريبة فعلاً صارت الافكار ، ليس في موقفٍ يخوله للرفض ، و ان رفض ، فمن يكترث ؟ فالامر هنا صار جماعياً ، موافقة مدير الاسرة تعتبر موافقة الجميع ! اي ان الافراد يتم طمس ارائهم في رأي واحد ، لكنه في عمله مثلاً يجد كثيراً من الاحيان يفرض التصويت أو رأيٌ فرديٌّ مخالف نفسه ، فليس قرارٌ واحدٌ هو الحاسم ، صاحبنا الان امام سؤال جديد بلا اجابة ، بلا لبان في فمه يُبصق ، و مل الشتائم في نفسه ايضاً ، اذاً فلا بد للتعبير هنا ان ينقلب توتراً مخفياً ، يظهر لاحقاً باللون الاسود تحت عينيه .

وقفت المركبة بجانب بيت الاصدقاء ، و رائحة شواء اللحم تفوح ، انها مأدبة عشاء اذاً ، على شرف الاسرة ، مدير الاسرة عفواً ، لكن مدير الاسرة ليس مولعاً بألوان الطعام ليتخذ قراراً واحداً ليخدم مصالحه "البطنية" .لكن ، لمَ كانت الموافقة اجبارية على الافراد اذاً ؟ سؤال جديد ايضاً بلا اجابة و التوتر بلغ ذروته ، و التمتمات الغريبة بدأت تصدر ، فياويلاه ، صاحبنا الان صار على المسرح ، في عرض الرجل الواحد ، مطالبٌ بتفسير هذه التمتمات ، بما يعجب الحضور ليفهموه ! او ان مصيره ابتسامات صفراء مرتبطة بتفسير اوحد ؛ لا بد أنه مجنون ، او يعاني من اضطراب نفسي ، فيما يرتبط بحمرة وجه "داخلية" في جوف افراد الاسرة ، ينتظرون وقت العودة بفارغ الصبر ، لصبّ جام غضبهم على هذا التصرف الغريب منه.

عشاء ٌ و طعام ، و قطة صغيرة تنتهز تحت الكراسي اي قطعة لحمٍ قد تسقط من يد الآكلين ، لتقتنصها ، و جوف بدأ يمتلىء شيئاً فشيئاً ، و صاحبنا يملؤ جوفه لحماً و توتراً ، و يزيد شوقه ليسجارة تفكّ في داخله بعضاً من توتره ، لكن مجرد التفكير بها الان تجعل مزاجه ينقلب اكثر ، "فالمجتمع" الاسري الخاص به ، يرفض السيجارة ، لكنه يدخنها !

ينتهي العشاء ، و يبدأ الاقران بالجلوس معاً ، كلٌ مع اقرانه ، و افكارهم ، يجففون ايديهم من الماء و الصابون الذي لم تظهر رائحته لشده دسم اللحم و ما تركه من اثر على الايادي .

يجد صاحبنا نفسه هنا ، غريباً ، باطنه يعارك باطنه ، متوترٌ و متشوقٌ لسيجارة فعلاً ، التدخين كان قراره الخاطىء ، لكنه ليس قراراً ادراياً ، فلا يستطيع ان يلزم به احد ، بل انه المُلام الوحيد عليه .

تتعالى صيحات الاطفال ، و هذا ما يزيده توتراً ، فبطبعه لا يهوى الاطفال و مداعبتهم ، و لا يسعفه ظهره الذي ارهقته جلسة الكراسي في العمل على حملهم و مداعبتهم ، يبحث الاطفال عن اي "عمّو" متفرغ ، ليلعبوا معه ، ليس هناك شاغرٌ إلاّه ، يمتعظ رامياً لهم الاحجيات التافه ليحلّوها ، فيجدونها صعبة ، ساعاتٍ تمضي و هو يلاعب الاطفال ، الى أن يصدر قرار نهاية الزيارة ، من بين ضحكات تعالت اصواتها بين النكات المنثورة ، فيخترق ، بخجلٍ دخان أراجيل النساء ماضياً لجلسة الرجال وهم يغادرون ، يصافح الجميع ، و يركب اخيراً في المركبة ، "أفراد الاسرة" يمسكون خواصرهم بأيديهم متألمين من شدة ما شبعوا و ضحكوا ، يتذكرون نكتة فلان ، و ضحكة علان ، و صاحبنا في الخلف يمسك قبضة الباب صامتاً ضجراً ، يسأل عن الوقت الذي أمضاه منذ ان تركها و نزل ، الى ان عانقها مجدداً حينما صعد ، يسأل عن ذلك الوقت ، كيف كان سيختار ان يمضيه ، و يستفيد منه ، و يضع لنفسه خياراتٍ مستحيلة كما هي عودة الزمن ، يسعده فعلاً اقلها متعة ، و يمتعه كثيراً اكثرها تسلية .

وصل صاحبنا و اسرته للبيت ، اطفأ الجميع انوار غرفهم و ناموا فوراً ، و صاحبنا يبرق في عينيه ضوء شاشة جهازه المحمول محاولاً تدارك ما فاته ، فيغضب كثيراً حينما يجد التدارك مستحيل ، فيشرع يفكر من جديد ، من مدير المجتمع ليشكو عليه ، فلا يجد الجواب هذه المرة ايضاً ، فيضرب الجدار بيده بقوة ، تألم منها هو ، و ما دري بها مدير المجتمع.
منقول للأمانة

Thank you