انبعاث الحب من رماد الانتقام بقلمي اللحظة .

نظرت إلى صورته الباهتة بوجهه الدائري ولونه الأسمر كحبات القمح التي كوتها نيران الشمس الحارقة فبصقت عليها في سخط ظاهر ، ومزقتها قطعا صغيرة وألقتها على الأرض وأشبعتها رفسا في انفعال هائج وهستيريا قاتلة لا تبقي
ولا تذر من الخير شيئا .
هدأت قليلا وحدقت في الأفق البعيد وصاحت بصوت كالرعد القاصف : لا بد من الانتقام ...... لا بد من الانتقام ولو بعد
حين أيها النذل الحقير .
ستنفث سمها القاتل في وريد الرجال جميعهم فترديهم صرعى ، فتثار لنفسها الجريحة التي ذبحت بسكين الغدر والخيانة.
يا لسذاجتها وتفاهتها لقد كانت مخدرة بمعسول كلامه فالتوى على جميع أملاكها كأفعى استوائية ضارية عطشى ، فلما
قضى وطره وتمكن من ذخائرها ونفائسها ، تلمظ بلسانه السليط الحديد وانقض عليها في سرعة رهيبة ، وغرز في قلبها نابيه الأزرقين فلم يغادرها حتى خمدت أنفاسها ، وغدت جثة باردة هامدة متعفنة تعافها حتى الضباع والعقبان .
وجدت نفسها وحيدة في الشارع دون مال أو مأوى فقصدت بيت صديقتها سميرة فآوتها وخففت من وقع مصيبتها وصدمتها التي حفرت في ذاكرتها بنيران لن تخبو أبد الدهر .
في ليلة هادئة والمطر ينزل بغزارة جلست مع صديقتها ترتشفان كأسا منعنعا من الشاي الأسود على إيقاع قطرات المطر
التي تغازل زجاج النافذة ، سمع على حين غرة قصف قوي للرعد فقالت سميرة :
- ستكون ليلة عصيبة يا سعاد .
- لن تكون أظلم من نفسي المقهورة الثائرة .
- ألا تطوين يا أختي تلك الصفحة القاتمة وتبدئين صفحة أخرى من الأمل والإشراق .
- لن اطويها إلا بالثأر والانتقام .
اقترضت من صديقتها مالا فبالغت في التأنق والتجمل ، وحرصت على صقل مفاتنها ومحاسنها لتوقع صيدا ثمينا متخما
بالمال والضياع والعقار .
جلست في يوم رائق مشمس على كرسي بالحديقة العمومية التي فرشت أرضيتها ببساط أخضر رائع ، ولفت من كل جانب بأشجار الكاليبتوس السامق الذي تمتد أغصانه معانقة وجه السماء ، كان الهدوء يعم المكان فلا تكاد تسمع سوى
نعيب الغربان أو زقزقة العصافير التي تتعانق في الفضاء فرحة بقدوم الربيع .
اقترب منها رجل في ميعة الشباب فتفرس في المكان مليا ثم سألها بأدب :
- هل تسمحين لي بالجلوس ؟ .
- تفضل فالمكان كما تعلم عمومي .
- كثيرا ما أتي لهذه الحديقة بالذات فأجدك دوما ساهمة وشاردة ، ويعز علي أن أرى وردة حمراء متألقة يغزوها الهم
والغم والكسوف .
- كيف للفرح أن يتسلل لروح قطعت من أصولها الواهية ؟ .
نظر إليها في تودد وقال :
- هل تقبليني صديقا لك عسى أطرد عنك جيوش الحزن والأسى ؟ .

ابتسمت في وجهه وقالت في نبرة حانية :
- تشرفت بمعرفتك ، وتسعدني صراحتك .
توطدت العلاقة بينهما وكانت بينهما لقاءات عدة مكنتها من التعرف على طباعه وأخلاقه الفذة النبيلة .
في خضم هذه التجربة الجديدة تبددت أحقادها ونيران بغضها وغدت تنظر للحياة بمنظار الحب والأمل .
التقت به مساء في الحديقة المعهودة فحياها في حب وشوق وقال والبسمة لا تكاد تفارق شفتيه :
- لم أعد أطيق الحياة من دونك يا سعاد .
- ولا أنا يا مراد .
- ظننت النساء من طينة واحدة مجبولة على الكذب والنفاق والخداع .
- وأنا كذلك يا مراد ، فزواجي الأول عقد حياتي ، وجعلني أزن الرجال بميزان واحد .
- يا الله كم الحياة بديعة فالورود تنبثق من بين الرماد ، والابتسام يشرق من ثنايا الظلام واليباب .
- يا ليتني عرفتك قبل تصدع القلب الموجوع .
- وأنا أيضا يا حبيبتي .
- كان ذاك الإنسان همه جمع المال وتكديسها ، أما الحب والصدق فقد وضعهما على رف النسيان .
- وهذا ما حدث لي مع الزوجة التي كنت أروم إسعادها ، بينما هي تحفر لي حفرة عميقة لا قرار لها .
نظرت إليه في إشراق والتساؤل يشع من عينيها :
- لم خفقت في تجربتك الأولى ؟ .
تنهد طويلا ثم قرن بين حاجبيه الكثين وقال في نبرة حزينة .
- سلمتها نفسي ومالي وروحي فنبذت الجميع في العراء ، مكنتها من شرفي الرفيع فلوثته بطين وعفن ، لقد ظننتها
مثال الحب والإخلاص ، بينما كانت تقيم علاقات مشبوهة في الخفاء مع من هب ودب .
ويا لغباوتي سلمتها مالي وروحي عربونا لوفائي وصدقي فغدوت صفر الأيادي .
مسحت دمعتان ندتا عن عينيه العسليتين وقالت :
- كلانا في الهم سواء وقد اكتوينا بنار واحدة فأذابت الحب والأمل من قلبينا ، كلانا مهيض الجناح وفي أمس
الحاجة لمن يأسو جراحه ، ويعيد البسمة وحب الحياة لروحه .
قبل جبينها وشبك يده بيدها وأخذها لأقرب عدول فاقترنا على الحب الصادق ، وتعاهدا على الوفاء مدى الحياة .

Thank you